الأحد، 7 سبتمبر 2014

مقالة الأستاذ صبري حافظ عن ابنة سوسلوف (الجزء الأول والثاني) في التحرير المصرية


الجزء الأول:
صبري حافظ

«ابنة سوسلوف».. وجناية الإسلامجية على الثورة اليمنية


رغم مرور أكثر من ثلاث سنوات على اندلاع ثورات الربيع العربى، ونجاح الثورة التونسية فى الإطاحة بنظام بن على فى 14 يناير 2011، وما أعقبها من طوفان ثورى أطاح بعدد من طغاة الزمن العربى الردىء، فإن الربيع العربى لم ينتج نصوصه الأدبية الكبيرة بعد. فالنصوص الأدبية هى أكثر النصوص كشفا عما وراء السطح وقدرة على إثارة للأسئلة المدببة. وهى الكاشفة لحقيقة قاعة المرايا التى يبدو أن الربيع العربى قد تاه فى أبهائها. فكثير مما يحدث فى تونس أو مصر يجد مراياه الصقيلة منها أو المعتمة فى اليمن، وما يدور فى سوريا تنعكس أشباحه فى ليبيا، وإن كان بصورة متغايرة. لذلك فإننى فى انتظار الأعمال الأدبية التى تكتب هذا كله، وأحرص على البحث عنها وقراءتها. فباستثناء عمل سعد القرش التوثيقى المهم «الثورة الآن.. يوميات من ميدان التحرير» عما جرى فى مصر إبان ثورة 25 يناير، فإننى لم أقرأ نصا عن الربيع العربى بأهمية هذه الرواية اليمنية الجميلة، أو بعمق استبصاراتها. صحيح أن السيد نجم أصدر مطلع هذا العام رواية جديدة عن الثورة المصرية، بعنوان «أشياء عادية تحدث فى الميدان»، وأن هناك أعمالا كثيرة أخرى تسعى للاقتراب من الربيع العربى وسبر بعض أغواره، لكننى لم أقرأ عملا قادرا على إضاءة ما جرى وموضعته فى سياقاته الأوسع مثل هذه الرواية الجميلة «ابنة سوسلوف» للكاتب اليمنى المرموق حبيب عبد الرب سرورى.
وسرورى كاتب من طراز فريد فى سياق الرواية العربية، ناهيك بالرواية اليمنية الوليدة التى تركت بصماتها الخاصة عبر أعمال محمد عبد الولى، وزيد مطيع دماج، اللذين رحلا مبكرا، ووجدى الأهدل ونادية كوكبانى وغيرهم. لأن حبيب سرورى، الذى نجد شيئا من سيرته الذاتية، وقد انتابها الكثير من التحوير الروائى، وهى تتجلى فى شخصية بطل هذه الرواية الجديدة، عمران، له خصوصيته الفريدة. ليس فقط لأنه جاء من عدن فى جنوب اليمن، بينما انحدر أغلب كتاب الرواية اليمنية من الشمال، ولهذا الأمر أهميته بسبب خصوصية التجربة اليمنية فى الجنوب فى أثناء سنوات تكوينه، لكن أيضا لأنه بدأ كتابة الرواية بالفرنسية، حيث صدرت روايته الأولى «المملكة المغدورة» بها عام 1998، ثم انتقل إلى الكتابة بالعربية، ونشر بها حتى الآن «عرق الآلهة»، وثلاثية «دملان» الروائية، ثم «طائر الخراب» و«تقرير الهدهد» و«أروى» قبل أن يعود فى روايته السابعة إلى سيرته الروائية يعتمد عليها فى الكتابة عن الربيع العربى فى اليمن. فالكتاب عادة ما يلجؤون إلى سيرتهم الذاتية فى رواياتهم الأولى.
لكن تجربة حبيب سرورى المتفردة، التى جاءت به لفرنسا فى بواكير الشباب للدراسة بها، ثم انتهت به إلى الاستقرار والعمل فيها، تركت ميسمها الواضح على مسيرته الروائية. فهو أستاذ لعلوم الكمبيوتر فى قسم هندسة الرياضيات التطبيقية، كلية العلوم التطبيقية، بجامعة روان فى فرنسا، كما يقول التعريف المكتوب على ظهر غلافها. وله أبحاثه العلمية فى هذا المجال، لكنه يكتب الرواية إلى جانب البحث العلمى فى عدد من فروع الرياضيات النظرية منها والتطبيقية. وهو الأمر الذى ترك أثره على روايته «عرق الآلهة» بتجربتها الفريدة التى يزاوج فيها بين الاستقصاءات العلمية فى الرياضيات وأبحاث الدماغ، وتقنيات رواية الخيال العلمى لسبر جوهر العلاقات الإنسانية وردود الفعل البشرية. كما أن ولعه بالبحث فى التراث العربى أسفر عن رواية «تقرير الهدهد» التى تتمحور حول عالم أبى العلاء المعرى وشخصيته. أما «أروى» التى نشرها العام الماضى، وقرأتها قبل هذه الرواية الجديدة، فهى قصة حب يمنية شيقة وغريبة تكتب اليمن أسطوريا وواقعيا معا، وتدور الكثير من أحداثها بين اليمن وأوروبا، وقد أعود يوما للكتابة عنها لما تتسم به من بنية روائية شيقة، كشفت عن نضح فنى استفادت منه بلا شك هذه الرواية الأخيرة «ابنة سوسلوف» مما مكنها من سبر أغوار الربيع العربى فى اليمن، وخارجه معا.
فنحن إذن بإزاء كاتب يمنى من جنوب اليمن، أمضى الشطر الأكبر من حياته فى فرنسا فتكون فيها علميا وثقافيا وفكريا، لكنه لم يستطع أن ينزع قلبه من اليمن، ومن اليمن الجنوبى على وجه التحديد. وظلت شمسه الحقيقية هى شمس اليمن الجنوبى وبحر عدن، على الرغم من شغف حبيب سرورى بشمس الجنوب الفرنسى ومهرجاناته الثقافية. ولذلك كانت العودة بعد مسيرة من النضج الفكرى والتجربة الروائية، إلى سيرته الذاتية يمتح منها ما يمكنه من وضع خبرته بما دار فى اليمن منذ اندلاع الثورة فيه، فى سياق سياسى واجتماعى وتاريخى أعرض. وربما كانت المسافة التى تتيحها له الحياة فى فرنسا من ناحية، والعمل فى مجال علمى خالص، بعيدا كل البعد عن هموم الوطن العربى عامة، واليمن خاصة من ناحية أخرى، هى التى أتاح لهذه الرواية أن تكتب الربيع العربى فى اليمن من مسافة ضرورية لرؤية الكثير من أبعاده.
والواقع أن عودة الكاتب إلى سيرته أو بأحرى إلى تجربته اليمنية يافعا فى يمن الثورة الاشتراكية فى عدن كانت ضرورية لسببين: أولهما أن الروايات الجيدة تعتمد على خبرة الكاتب الحقيقية بموضوعها، وليس أكثر حقيقية من خبرة الكاتب الذاتية. وثانيهما أن تغطية الرواية هذا الزمن التاريخى العريض الذى يمتد إلى نصف قرن من أواخر ستينيات القرن الماضى حتى الآن، مكن الرواية من تقديم استقصاءاتها المهمة حول كيف تحول الواقع العربى عامة، والواقع اليمنى خصوصا من زمن الحلم بالتحرر والتقدم والاشتراكية، إلى «زمن انتصار الخراب والظلمات»، وهو الزمن الذى استطاع أن يلتهم الربيع العربى فى اليمن رغم عرامة الثورة فيه وعنفوانها. وأن يحيل ما جرى فيه إلى مرآة نستطيع أن نتأمل فى انعكاساتها كيف أصبح الإسلامجية، الذين يتاجرون بالإسلام ويحيلون قيمه النبيلة إلى أدوات للاستيلاء على السلطة وتكريس التخلف والفساد، فى كل مكان أداة من أدوات الثورة المضادة، وقوة من قواها الشريرة التى تسعى لتدمير الحلم بالعدل والتقدم والثورة معا. وهذا ما سنتعرف عليه حينما نقرأ معا «ابنة سوسلوف» الأسبوع القادم.

الجزء الثاني:

صبري حافظ

«ابنة سوسلوف» وكيف دمر الإسلامجية أحلام الربيع العربى


تغنيك رواية الكاتب اليمنى حبيب سرورى (ابنة سوسلوف)، كالروايات الجيدة، عن قراءة كثير من كتب التاريخ ودراسات التحول الاجتماعى، وشبكة تيارات الحراك الفكرى والاجتماعى المعقدة التى تكوّن فرادة الحالة اليمنية. لأنها تكشف لك عن آليات الدمار التحتية التى انطوت عليها الخلافات داخل اليمن الجنوبى، ثم عملية الوحدة اليمينة عام 1994، أو بالأحرى انتصار القبلية السلفية الرجعية على الاشتراكية وأحلام التحرر المدنية التى كانت تتمثل فى الجنوب. وهى رواية تكتب إلى جانب هذه الخريطة التاريخية الاجتماعية العريضة ما جرى للثورة اليمنية إبان الربيع العربى، على ظهار ما جرى لحلم اليمن مع الثورة على مد أكثر من نصف قرن.
لكنها تكتب هذا كله من خلال سيرة بطلها «عمران» ومسيرته التكوينية بتحققاتها وخيباتها معا. وتستخدم فى هذه الكتابة التضافر السردى بين تقنية استخدام منشورات الراوى على حائطه فى «فيسبوك»، وتقنية البوح المباشر أو المناجيات التى يحكى فيها الراوى بضمير المتكلم كثيرا من سيرته، أو مسيرته مع نفسه ومع اليمن، لملاك الموت، علّه يساعده على توضيح ما جرى وفهمه. فإذا كان الحكى قد بدأ مع شهرزاد كأداة لتعليق الزمن ودرء عوادى الموت الغشوم، فإنه يتحول عند حبيب سرورى إلى وسيلة لفهم الحياة وعبثية الموت الثاوى فيها معا، وللبحث عن سر سيطرته على التفكير العربى وتمترسه فيه.
ويقدم الفصل الأول من الرواية الذى يبدأ ككثير من فصولها بمنشور على حائط الراوى فى «فيسبوك» أحد مفاتيح القراءة المهمة. لأن هذه المنشورات التى تتناثر على مد السرد تربطه بالفضاء الرقمى، والعالم الافتراضى الذى لعب دورا مهما فى الربيع العربى من ناحية، وأصبح ساحة من ساحات نضالاته المفتوحة من ناحية أخرى. فقد زود «فيسبوك» كل ما هو شخصى وحميم ببعد جمعى. ومكن الفرد من أن يتأمل ذاته وتواريخه ويعرض آراءه ومواقفه أمام الآخرين. وهو هنا يلعب هذا الدور، ويكشف لنا عن اشتباكات الحياة الشخصية لعمران بالحياة العامة لليمن، والتوازى بين ما دار له وما جرى لبلده الحبيب. وإن كانت الرواية تنتهى بالفراق بين الاثنين، وقد غرق اليمن فى مستنقع ظلام التأسلف والتخلف، بينما يسعى عمران فى نهايتها إلى النجاة بنفسه، والانطلاق إلى عالم الصين المغاير والواعد بمستقبل بديل. فالرواية رغم أنها معمورة بالذرى والخيبات التى عاشها الراوى على مد نصف قرن من حياته، فإنها فى مستوى من مستوياتها قصيدة عشق للوطن، لليمن، وعدن وجزيرة عمران. ويحرص هذا المنشور الافتتاحى على الربط بين ما جرى فى مرحلة الطفولة والصبا الذى عاشه الراوى فى حى الشيخ عثمان فى ستينيات القرن الماضى، وما يدور الآن بعد تخثر الربيع العربى وجناية الإسلامجية على الثورة اليمنية ووأدهم لها. فالأهزوجة التى كان يرددها الأطفال خلف مجذوب القرية «ماكينة الإضحاك» حسّانى، سرعان ما تتبدى لنا تحويراتها الحماسية فى مسيرات الجماهير الكادحة بعد وصول اليسار للسلطة فى جنوب اليمن، وتأسيس جمهوريته الديموقراطية الشعبية، ثم تتحول بعد أربعين سنة أخرى فى مظاهرات مجاذيب مسيرات أسلمة الربيع العربى «كلما زدنا شهيد/ صرنا ثوار من حديد»، إلى صرخات للاحتفال بثقافة الموت وإبادة الذات، بدلا من الغناء القديم للثورة والحرية. هذه التحولات الافتتاحية لأهزوجة الحسانى الفكاهية التى كان يرددها الأطفال بمرح وراءه، وتحولها إلى صرخات عدمية متشنجة لتمجيد ثقافة الانتحاريين، هى المدخل الملائم لتلك الرواية التى تكشف لنا كيف انزلق اليمن من عصر «الحلم بالاشتراكية العلمية»، إلى «عصر الفجاجة والظلامية وإبادة الذات». وبموازاة هذه الأزمنة الثلاثة بأهازيجها المختلفة، تقدم الرواية فضاءات جغرافية ثلاثة هى عدن، وباريس وصنعاء. وتربط فضاء الطفولة العدنى بمرحلة التكوين والتفتح على الحياة والحب والثورة وحلم الثورة الاشتراكية المفتوح، الذى يؤدى به إلى الحصول على بعثة للدراسة الجامعية فى فرنسا. وإن جذّرت فيه بدايات الانفصام الذى يتجذّر فى الرجل العربى بين الجنس والحب العذرى منذ بواكير الصبا. بين تجربة مدينة السيسبان و«فقش» عذريته. وبين الحب العذرى الصامت لفاتن الجميلة، الذى يربطه بقدسية طهرانية بعيدة المنال. بينما تربط فضاء باريس بالحب الحقيقى والنضج المعرفى الذى أجهز على تلك الانفصامات والتبسيطات الفكرية معا، فقد كانت النقلة لفرنسا بمثابة الانفجارة الكبرى «Big Bang»، التى تخلقت بعدها الحياة فى نظريات نشوء الكون. حيث غيرت الحياة فيها عمران إلى غير رجعة. فيها التقى بحب حياته «نجاة» زميلته الجميلة فى الجامعة، التى قادته إلى الخروج من تبسيطات سنوات عدن، إلى تعقيدات الحياة الغربية الحديثة وثرائها. ومع نجاة عاش تجربة يسارية مغايرة لتلك التى عاشها فى عدن، هى تجربة أعياد صحيفة «اللومانيتيه» السنوية التى تتحقق فيها كما يقول اسمها الإنسانية المنشودة. لكن هذه الحياة الجميلة سرعان ما اغتالتها تفجيرات السلفيين الإرهابية فى أثناء العشرية الجزائرية السوداء التى طال عنفها محطة مترو سان ميشيل فى باريس وماتت فيها نجاة. بعد فقدان نجاة وعدن معا، يعود عمران هذه المرة إلى صنعاء، حيث يكتشف ما جرى لأخته الطبيبة بنت ثورة الجنوب والحلم الاشتراكى من تحولات، وقد غرقت فى مستنقع من الشعوذات والأدعية. ويلتقى عندها بالداعية الإسلامية «أمة الرحمن» التى سنكتشف أنها ليست سوى «فاتن» حبه الطهرانى الأول، ابنة «سالم/ سوسلوف» الذى لمع نجمه الفكرى فى عدن بعد عودته من دراسته الماركسية بموسكو، وتعيينه رئيسا للمدرسة العليا للعلوم الماركسية، وإطلاق اسم سوسلوف عليه تيمنا بميخائيل سوسلوف مسؤول الدائرة الأيديولوجية فى الحزب الشيوعى السوفييتى وقتها. وقد تحولت فاتن/ هاوية/ أمة الرحمن، فلأسمائها الثلاثة دلالات على طبقات المعنى الثلاث التى تمثلها، إلى ألعوبة أو أداة فى حلبة صراع جبار بين قوى السلفيين وزعيمهم المنافق «الإمام الهمدانى» وقوى اليسار. وحينما تقيم علاقتها معه فى ما يدعونه ببروفات الفردوس المترع فى خيال المتأسلفين بحفلات الجنس، ندخل فى شبكة تناقضات الثورة والمتأسلفين معا. بالصورة التى تكشف لنا عن جنايتهم الفادحة على الثورة، وهم يقودون وقائع الثورة اليمنية إلى حتفها. وترصد لنا كيفية تدمير الإسلامجية وقوى التأسلف والظلام ثورة الربيع العربى فيه.

http://tahrirnews.com/chosen/أخبار-مصر/ابنة-سوسلوف-وكيف-دمر-الإسلامجية-أحل/

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق